الحلم...قصة طفل نراه كل يوم ولا نشعر به...

الحــلم

ضئيل الجسد...

رث الملابس...

حافي القدمين...

شعره المغبر متناثر بإهمال على رأسه ..

كان من الواضح أنه لم يقرب الماء ، ولم يعرف معنى الإستحمام خلال سنوات عمره التي لم تتجاوز العشر ..

عيناه السوداوين رغم مايرتسم بهما من حزن وإنكسار، إلا أنهما كان يطل منهما شعاع ضئيل من ضوء المرح والبراءة ..

كان يقضي نهاره في محاولة بيع المناديل الورقية في الإشارات المزدحمة ، وفي المساءيمسك خرقة صفراء متسخة يطوف بها على العربات يمسح زجاجها ويتسول ثمن عشائه الضئيل من أصحابها بنظراته التي لايبذل جهدا كبيرا في ان يستدر بها عطفهم..

ذلك هو يومه..وتلك هي حياته التي لايعرف لها بديل ..

من أبوه؟ من أمه؟ أين هما ؟

لايعرف ... ولم يهتم أن يعرف ...

فمن التعب كان يلجأ في آخر الليل الى ذلك الركن المظلم على الرصيف المقابل للمحل الكبير المتلألئ الأضواء ، يتوسد ذراعيه ويلملم بقايا ملابسه البالية على جسده النحيل..

وكلن آخر مايغمض عينيه عليه هي الأضواء المبهجة والأصوات المرحة الصاخبةالصادرة من محل بيع المثلجات والحلوى الذي أمامه .

ويغمض عينيه ..ويراوده ذلك الحلم...

يحلم أنه واحد من هؤلاء الأطفال الذين يدخلون الى هذا المحل ويخرجون منه حاملين في أيديهم الحلوى وأكواب" الآيس كريم" ويرى نفسه مرتديا ملابس نظيفة جميلة ،شعره مرتب، وفي قدميه حذاء جديدا لامعا ، وأهم من كل ذلك أنه يحمل بين يديه أكبر كوب من "الآيس كريم" في المحل أعدها له البائع بعناية وتفنن في تشكيلها من أجله هو فقط وباقي الأولاد ينظرون إليه في حسد وغيرة .. وعندما توقظه أشعة الشمس في الصباح يجد نفسه على حالها ، لم يتغير منه شئ ، مازالت ملابسه بالية ممزقة ولايزال شعره متسخا مبعثرا وقدمه عارية خشنة ..

ويعود في الليل يراقب الأولاد ،وتبرق في عينيه الأضواء، ثم ينام ...ويحلم ..

لكن تلك الليلة تختلف ..

فهو لم بأكل الا مايخرس به جوعه منذ أسبوع كامل مضى .. حتى استطاع أخيرا أن يوفر ثمن حلمه الوحيد ..

هاهي النقود بين يديه ، يقبض عليها كأنه يتشبث بآخر أمل لديه في الحياة ..

توجه الى المحل الصاخب بارجل مرتعدة

لكن بخطى ثابتة ،لامع العينين ، محتبس الأنفاس .. وما إن دلف من الباب حتى تطلعت إليه العيون شذرا ، مستنكرة منظره المذري في ذلك المكان الفخم ..

لم يلاحظ الصبي تلك النظرات وقد تعلقت عينيه بيد البائع وهو يعد كوبا كبيرا من "الآيس كريم" ، فأسرع إليه ووضع كل مالديه من نقود أمامه، واختطف الكوب من يده بلهفة وخرج من المحل غير مبال بنظرات الدهشة ولابعبارات التذمر ..

كان كل مايهمه الآن أن حلمه أصبح حقيقة

أخذ يتأمله بحرص وشوق من كل جانب ، وبينما كان يهم بتذوق أول قطعة منه ، إذا به يسمع صوت نفير عال لم يكد ينظر الى مصدره ختى وجد نفسه يطير عن الأرض عاليا ليصطدم بها في النهاية وكل جسده يصرخ ألما ..

تجمع الناس حوله ،وخرج سائق العربة وهويطلق السباب ويصرخ في وجه الصبي الملقى على الأرض كجثة هامدة..

لكنه لم يكن يسمع شيئا من صراخ السائق ولم يلتفت إلى الدماء التي تسيل من جبهته أوإلى عظامه المحطمة ..

كان كل مايراه من بين الدماء التي غطت عينيه هو الكوب الذي سقط من يده وتناثرمافيه على الأرض ، وتحطم تحت قدم أحد المتجمعين حوله ..

وكان كل مايسمعه هو صوت صراخ قلبه المنفطر

ألما وحسرة على الحلم المحطم والأمل المسكوب

وكان هذا آخر مايراه .. وأخر مايسمعه ..